فصل: فَصْلٌ: (الثَّانِي تَلْبِيسُ أَهِلَ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الثَّانِي تَلْبِيسُ أَهِلَ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا]:

قَالَ: وَالتَّلْبِيسُ الثَّانِي: تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا، وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا.
إِطْلَاقُ التَّلْبِيسِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ التَّلْبِيسَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَاجِعٌ إِلَى فِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِي الْأَوْلَى إِلَى فِعْلِ الرَّبِّ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ تَسْمِيَةُ الدَّرَجَةِ الْأُولَى تَلْبِيسًا شَنِيعًا جِدًّا، وَطَّأَ لَهُ بِذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أَيْ لَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَطْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَقْوَى إِخْلَاصُهُ لِلَّهِ، وَصِدْقُهُ وَمُعَامَلَتُهُ، حَتَّى لَا يُحِبَّ أَنْ يَطَّلِعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُ، فَهُوَ يُخْفِي أَحْوَالَهُ غَيْرَةً عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَشُوبَهَا شَائِبَةُ الْأَغْيَارِ، وَيُخْفِي أَنْفَاسَهُ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْمُدَاخَلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَمَرَّ الزُّكَامَ! فَالصَّادِقُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجْدُ وَالْحَالُ، وَهَاجَ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الشَّوْقِ؛ أَخْلَدَ إِلَى السُّكُونِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ غَلَبَ؛ أَظْهَرَ أَلَمًا وَوَجَعًا؛ يَسْتُرُ بِهِ حَالَهُ مَعَ اللَّهِ، كَمَا أَظْهَرَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْمِهِ أَنَّهُ سَقِيمٌ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُمْ، وَيَرْجِعَ بِذَلِكَ الْوَارِدِ وَتِلْكَ الْحَالِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجْعَلَهَا جُذَاذًا.
فَالصَّادِقُونَ يَعْمَلُونَ فِي كِتْمَانِ الْمَعَانِي، وَاجْتِنَابِ الدَّعَاوِي، فَظَوَاهِرُهُمْ ظَوَاهِرُ النَّاسِ، وَقُلُوبُهُمْ مَعَ الْحَقِّ تَعَالَى، لَا تَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَهُمْ فِي وَادٍ، وَالنَّاسُ فِي وَادٍ.
فَقَوْلُهُ: تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَمَرَتْ لَهُمْ بِاللَّهِ، وَصَفَتْ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوهَا لِلنَّاسِ، وَإِنِ اطَّلَعَ غَيْرُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِمْ لِكَشْفِهَا وَإِظْهَارِهَا؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ فَلَا يَفْزَعُونَ إِلَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ، وَشِكَايَةِ الْحَالِ، بَلْ يَسَعُهُمُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْجَحْدِ.
قَوْلُهُ: وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى كَرَامَاتِهِمْ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا النَّاسُ، فَهُمْ يُخْفُونَهَا أَبَدًا غَيْرَةً عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِظْهَارِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَلَا يُظْهِرُونَهَا إِلَّا لِحُجَّةٍ عَلَى مُبْطِلٍ، أَوْ حَاجَةٍ تَقْتَضِي إِظْهَارَهَا.
قَوْلُهُ: وَالتَّلْبِيسُ بِالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْبَابِ مَعْنَاهُ، وَتَعْلِيقُ الظَّوَاهِرِ بِالشَّوَاهِدِ وَالْمَكَاسِبِ تَلْبِيسٌ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ وَالْعُقُولِ الْعَلِيلَةِ، يَعْنِي: أَنَّ التَّلْبِيـسَ الْمَذْكُـورَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ، أَيْ أَهْلِ الْإِحْسَاسِ الضَّعِيفِ، وَالْعُقُولُ الْعَلِيلَةُ هِيَ الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي لَا تُدْرِكُ الْحَقَّ لِمَرَضٍ بِهَا.
قَوْلُهُ مَعَ تَصْحِيحِ التَّحْقِيقِ عَقْدًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يُلْبِسُونَ عَلَى أَهْلِ الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ أَحْوَالَهُمْ وَكَرَامَاتِهِمْ بِسَتْرِهِمْ لَهَا عَنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ قَائِمِينَ بِالتَّحْقِيقِ اعْتِقَادًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً، فَهُمْ مُعْتَقِدُونَ لِلْحَقِّ، سَالِكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَهْلُ مُرَاقَبَةٍ وَشُهُودٍ.
قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ: رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ وَالْأَسْبَابِ فِي مُلَابَسَتِهِمْ.
وَإِنَّمَا كَانُوا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ذَاكِرُونَ اللَّهَ بَيْنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي وَسَطِهِمْ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُمْ فِي غَفَلَاتِهِمْ، بَلْ يَقُومُونَ فِيهِمْ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالْأَمْرِ لَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْحَمُونَ بِهِمْ، وَيَنَالُونَ بِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ مَعَ الْخَلْقِ بِحُكْمِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ، وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ خَاصَّةٌ.

.[الثَّالِثُ تَلْبِيسُ أَهْلِ التَّمْكِينِ عَلَى الْعَالَمِ]:

قَوْلُهُ: التَّلْبِيسُ الثَّالِثُ: تَلْبِيسُ أَهْلِ التَّمْكِينِ عَلَى الْعَالَمِ، تَرَحُّمًا عَلَيْهِمْ بِمُلَابَسَةِ الْأَسْبَابِ، وَتَوَسُّعًا عَلَى الْعَالَمِ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينَ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ، الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ.
هَذَا أَيْضًا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ، مِمَّا يُنْكَرُ لَفْظُهُ وَإِطْلَاقُهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مَحْوُ هَذَا اللَّفْظِ الْقَبِيحِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ تَتَّسِعُ مَسَامِعُ الْمُؤْمِنِ لِيَسْمَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! بَلِ الرُّسُلُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- كَشَفُوا عَنِ النَّاسِ التَّلْبِيسَ الَّذِي لَبَّسُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَبَّسَهُ عَلَيْهِمْ طَوَاغِيتُهُمْ، فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَشَيَاطِينُهُمْ.
وَكَانَ النَّاسُ فِي لَبْسٍ عَظِيمٍ ** فَجَاءُوا بِالْبَيَــانِ فَأَظْهَرُوهُ

وَكَانَ النَّاسُ فِي جَهْلٍ عَظِيمٍ ** فَجَاءُوا بِالْيَقِينِ فَأَذْهَبُوهُ

وَكَانَ النَّاسُ فِي كُفْرٍ عَظِيمٍ ** فَجَاءُوا بِالرَّشَـادِ فَأَبْطَلُـوهُ

وَالْمُصَنِّفُ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ قَدَمًا فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَتَعْظِيمِهِمْ، وَتَعْظِيمِ مَا جَاءُوا بِهِ، وَلَكِنْ لُبِّسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا لُبِّسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَهْلَ التَّمْكِينِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ التَّلْبِيسِ لَهُمْ، ثُمَّ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا تَلْبِيسُ تَرَحُّمٍ، وَتَوْسِيعٍ عَلَى الْعَالَمِ، وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَلَا عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ، بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمُوا عَجْزَ النَّاسِ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَالتَّحَقُّقِ بِهِ؛ لَبَّسُوا عَلَيْهِمْ، وَسَتَرُوهُمْ بِالْأَسْبَابِ، رَحْمَةً بِهِمْ وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ.
فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَسْبَابِ رَحْمَةً وَتَوْسِيعًا، مَعَ الِانْقِطَاعِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا تَجْرِيدًا وَتَوْحِيدًا.
قَوْلُهُ لَا لِأَنْفُسِهِمْ يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْأَسْبَابِ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، لَا لِحَظِّ الْآمِرِ، وَجَرِّ النَّفْعِ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ لِقَصْدِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَحُصُولِ النَّفْعِ لَهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِمَصْلَحَةٍ وَقَصَدَ نَفْعَهُ: فَبِنَفْسِهِ يَبْدَأُ، وَلَهَا يَنْفَعُ أَوْلًا، وَمَصْلَحَتُهَا لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ مَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ قُصِدَ بِإِحْسَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ، الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى خَلْقِهِ لَا لِأَجْلِ مُعَاوَضَةٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ: فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْعِوَضَ لَكِنِ الْأَعْوَاضُ تَتَفَاوَتُ، وَمَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْعِوَضُ يَخْتَلِفُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَا لِأَنْفُسِهِمْ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ ابْنَ آدَمَ، كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينِ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ، يَعْنِي: الَّذِينَ فَنُوا فِي الْجَمْعِ، ثُمَّ حَصَلُوا فِي الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَذَلِكَ صُدُورُهُمْ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ، يَعْنِي: الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا أَشَارُوا عَنْ عَيْنٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَصْدَرِهَا، فَإِشَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ وَإِشَارَةٌ عَنْ كَشْفٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ شُهُودٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ عَيْنٍ.

.فَصْلٌ: [مَبْنَى الْبَابِ عَلَى مَحْوِ الْأَسْبَابِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا]:

قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى مَحْوِ الْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَلِهَذَا سَمَّى الْمُصَنِّفُ نَصْبَهَا تَلْبِيسًا.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ هُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا، وَإِنَّهُ لَا دِينَ إِلَّا بِذَلِكَ، كَمَا لَا حَقِيقَةَ إِلَّا بِهِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ: مَبْنَاهُمَا عَلَى إِثْبَاتِهَا، لَا عَلَى مَحْوِهَا، وَلَا نُنْكِرُ الْوُقُوفَ مَعَهَا، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَا يَتِمُّ إِسْلَامُهُ وَإِيمَانُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمْرَنَا بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، بِمَعْنَى أَنَّا نُثْبِتُ الْحُكْمَ إِذَا وُجِدَتْ، وَنَنْفِيهِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ، فَوُقُوفُنَا مَعَهَا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- هُوَ مُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَلْ يُمَكِّنُ حَيَوَانًا أَنْ يَعِيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِوُقُوفِهِ مَعَ الْأَسْبَابِ؟ فَيَنْتَجِعَ مَسَاقِطَ غَيْثِهَا وَمَوَاقِعَ قَطْرِهَا، وَيَرْعَى فِي خَصِبِهَا دُونَ جَدِبِهَا، وَيُسَالِمَهَا وَلَا يَحَارُ بِهَا، فَكَيْفَ وَتَنَفُّسُهُ فِي الْهَوَاءِ بِهَا، وَتَحَرُّكُهُ بِهَا، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ بِهَا، وَغِذَاؤُهُ بِهَا، وَدَوَاؤُهُ بِهَا، وَهُدَاهُ بِهَا، وَسَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ بِهَا؟ وَضَلَالُهُ وَشَقَاؤُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِلْغَائِهَا، فَأَسْعَدُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ: أُقْوَمُهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَصَالِحِهِمَا، وَأَشْقَاهُمْ فِي الدَّارَيْنِ: أَشُدُّهُمْ تَعْطِيلًا لِأَسْبَابِهِمَا، فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالنَّجَاحِ وَالْخُسْرَانِ.
وَبِالْأَسْبَابِ عُرِفَ اللَّهُ، وَبِهَا عُبِدَ اللَّهُ، وَبِهَا أُطِيعَ اللَّهُ، وَبِهَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَبِهَا نَالَ أَوْلِيَاؤُهُ رِضَاهُ وَجِوَارَهُ فِي جَنَّتِهِ، وَبِهَا نُصِرَ حِزْبُهُ وَدِينُهُ، وَأَقَامُوا دَعْوَتَهُ، وَبِهَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، فَالْوُقُوفُ مَعَهَا وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا: هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ قَدَرًا، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ غَلُظَ حِجَابُهُ، وَكَثُفَ طَبْعُهُ فَيَقُولُ: لَا نَقِفُ مَعَهَا وُقُوفَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِحْدَاثِ وَالتَّأْثِيرِ، وَأَنَّهَا أَرْبَابٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَرْبَابٌ، وَآلِهَةٌ مَعَ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيجَادِ، أَوْ أَنَّهَا عَوْنٌ لِلَّهِ يَحْتَاجُ فِي فِعْلِهِ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لَهُ: فَشَأْنُكَ بِهِ، فَمَزِّقْ أَدِيمَهُ، وَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِعَدَاوَتِهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا النَّفْيُ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ؟ وَالْإِلْغَاءُ لِمَا اعْتَبَرَهُ؟ وَالْإِهْدَارُ لِمَا حَقَّقَهُ؟ وَالْحَطُّ وَالْوَضْعُ لِمَا نَصَبَهُ؟ وَالْمَحْوُ لِمَا كَتَبَهُ؟ وَالْعَزْلُ لِمَا وَلَّاهُ؟ فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّكَ تَعْزِلُهَا عَنْ رُتْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ وَلَّاهَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ حَتَّى تَجْعَلَ سَعْيَكَ فِي عَزْلِهَا عَنْهَا؟
وَيَالَلَّهِ مَا أَجْهَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِإِلْغَائِهَا وَمَحْوِهَا، وَإِهْدَارِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَلَا طَبَائِعَ، وَلَا غَرَائِزَ لَهَا تَأْثِيرُ مُوجِبَةٍ مَا، وَلَا فِي النَّارِ حَرَارَةً وَلَا إِحْرَاقًا، وَلَا فِي الدَّوَاءِ قُوَّةً مُذْهِبَةً لِلدَّاءِ، وَلَا فِي الْخُبْزِ قُوَّةً مُشْبِعَةً، وَلَا فِي الْمَاءِ قُوَّةً مُرَوِّيَةً، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، وَلَا فِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةً قَاتِلَةً، وَلَا فِي الْحَدِيدِ قُوَّةً قَاطِعَةً؟ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا بِشَيْءٍ، وَلَا فَعَلَ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ.
فَهَذَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمُ الَّذِي يَحُومُونَ حَوْلَهُ، وَيُبَالِغُونَ فِي تَقْرِيرِهِ.
فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ، وَأَشْمَتُوا بِهِمُ الْأَعْدَاءِ، وَنَهَجُوا لِأَعْدَاءِ الرُّسُلِ طَرِيقَ إِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَجَنَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ أَعْظَمَ جِنَايَةٍ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُوَكَّلُونَ بِكَسْرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ كَسَرُوا الدِّينَ وَسَلَّطُوا عَلَيْهِ الْمُبْطِلِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْجَاهِلِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ.
فَقِفْ مَعَ الْأَسْبَابِ حَيْثُ أُمِرْتَ بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَفَارِقْهَا حَيْثُ أُمِرْتَ بِمُفَارَقَتِهَا، كَمَا فَارَقَهَا الْخَلِيلُ وَهُوَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، حَيْثُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا.
وَدُرْ مَعَهَا حَيْثُ دَارَتْ، نَاظِرًا إِلَى مَنْ أَزِمَّتُهَا بِيَدَيْهِ، وَالْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ إِلَى تَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَهُ، وَارْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَلَا تَغِبْ عَنْهَا وَلَا تَفْنَ عَنْهَا، بَلِ انْظُرْ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي رُتْبَتِهَا الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ غَيْبَتَكَ بِمُسَبِّبِهَا عَنْهَا نَقْصٌ فِي عُبُودِيَّتِكَ، بَلِ الْكَمَالُ: أَنَّ تَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، وَتَشْهَدَ قِيَامَكَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَتَشْهَدَ أَنَّ قِيَامَكَ بِهِ لَا بِكَ، وَمِنْهُ لَا مِنْكَ، وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَمَتَى خَرَجْتَ عَنْ ذَلِكَ وَقَعْتَ فِي انْحِرَافَيْنِ، لَابُدَّ لَكَ مِنْ أَحَدِهِمَا: إِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ، لِضَعْفِ نَظَرِكَ وَغَفْلَتِكَ، وَقُصُورِ عِلْمِكَ وَمَعْرِفَتِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِالْمَقْصُودِ عَنْهَا، بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا.
وَالْكَمَالُ: أَنْ يُسَلِّمَكَ اللَّهُ مِنَ الِانْحِرَافَيْنِ، فَتَبْقَى عَبْدًا مُلَاحِظًا لِلْعُبُودِيَّةِ، نَاظِرًا إِلَى الْمَعْبُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

.فَصْلٌ: الْوُجُودُ:

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: بَابُ الْوُجُودِ: أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ اسْمَ الْوُجُودِ عَلَى نَفْسِهِ صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ، وَالثَّالِثُ: وُجُودُ مَقَامِ اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ.
هَذَا الْبَابُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَالْغَايَةُ الَّتِي قَصَدُوهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا مَعْنًى صَحِيحًا، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْوُجُودِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظِيرِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مَا تَضَمَّنُهُ الْوِجْدَانُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ وِجْدَانُ الْمَطْلُوبِ تَعَلَّقَ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فَهَذَا وُجُودٌ مُقَيَّدٌ بِظَفَرِهِمْ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجِدُ مَا ظَنَّهُ مَنْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ حَاصِلَةٌ، وَكَذَلِكَ {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فَهَذَا وِجْدَانُ الْكَافِرِ لِرَبِّهِ عِنْدَ حِسَابِهِ لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْوُجُودَ الَّذِي يُشِيرُ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْإِسْرَائِيلِيُّ: أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُكَ؟ قَالَ: عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدَتْ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ فِي الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي وَقَوْلَهُ فِي الْعِيَادَةِ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ: لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، إِيذَانًا بِقُرْبِهِ مِنَ الْمَرِيضِ، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ، لِذُلِّهِ وَخُضُوعِهِ، وَانْكِسَارِ قَلْبِهِ، وَافْتِقَارِهِ إِلَى رَبِّهِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُجُودَ اللَّهِ عِنْدَهُ، هَذَا، وَهُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِهِ، فَوُجُودُ الْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ ظَفَّرَهُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ.
وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: سَالِكٌ، وَوَاصِلٌ، وَوَاجِدٌ.
فَإِنْ قُلْتَ: اضْرِبْ لِي مَثَلًا، أَفْهَمُ بِهِ مَعْنَى الْوُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْوُجُودِ.
قُلْتُ: إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا كَنْزًا عَظِيمًا، مَنْ ظَفِرَ بِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، اسْتَغْنَى غِنَى الدَّهْرِ، وَتَرَحَّلَ عَنْهُ الْعَدَمُ وَالْفَقْرُ، فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِلسَّيْرِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ فِي التَّأَهُّبِ لِلْمَسِيرِ، فَلَمَّا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ انْتَهَى إِلَى الْكَنْزِ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِتَحْوِيلِهِ إِلَى دَارِهِ، وَحُصُولِهِ عِنْدَهُ بَعْدُ، فَهُوَ وَاصِلٌ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَالَّذِي فِي الطَّرِيقِ سَالِكٌ، وَالْقَاعِدُ عَنِ الطَّلَبِ مُنْقَطِعٌ، وَآخِذُ الْكَنْزِ- بِحَيْثُ حَصَلَ عِنْدَهُ، وَصَارَ فِي دَارِهِ- وَاجِدٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى حَوْلَهُ حَامَ الْقَوْمُ، وَعَلَيْهِ دَارَتْ إِشَارَاتُهُمْ فَعِنْدَهُمُ التَّوَاجُدُ بِدَايَةٌ، وَالْوَاجِدُ وَاسِطَةٌ، وَالْوُجُودُ نِهَايَةٌ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَتَكَلَّفُ التَّوَاجُدَ، فَيَقْوَى عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ وَاجِدًا، ثُمَّ يَسْتَغْرِقُ فِي وَجْدِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَوْجُودِهِ.
وَيَسْتَشْكِلُقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ النُّورِيِّ: أَنَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً بَيْنَ الْوَجْدِ وَالْفَقْدِ إِذَا وَجَدْتُ رَبِّي فَقَدْتُ قَلْبِي، وَإِذَا وَجَدْتُ قَلْبِي فَقَدْتُ رَبِّي، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْوُجُودَ الصَّحِيحَ يُغَيِّبُ الْوَاجِدَ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، فَيَفْنَى بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْحَقِيقَةَ غَابَ عَنْ قَلْبِهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ، وَإِذَا غَابَتْ عَنْهُ الْحَقِيقَةُ بَقِيَ مَعَ صِفَاتِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ:
وُجُودِي أَنْ أَغِيبَ عَنِ الْوُجُودِ ** بِمَا يَبْدُو عَلَيَّ مِنَ الشُّهُــودِ

وَمَا فِي الْوَجْدِ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ ** فَخَرْتُ بِوَجْدِ مَوْجُودِ الْوُجُودِ

وَقَدْ مَثَّلَ التَّوَاجُدَ وَالْوَجْدَ وَالْوُجُودَ بِمُشَاهَدَةِ الْبَحْرِ وَرُكُوبِهِ وَالْغَرَقِ فِيهِ، فَقِيلَ: التَّوَاجُدُ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْعَبْدِ، وَالْوَجْدُ: يُوجِبُ اسْتِغْرَاقَ الْعَبْدِ، وَالْوُجُودُ: يُوجِبُ اسْتِهْلَاكَ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ عِبَارَاتٌ وَاسْتِعَارَاتٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْبِدَايَةُ، وَالتَّوَسُّطُ، وَالنِّهَايَةُ، وَالسُّلُوكُ وَالْوُصُولُ- عِنْدَهُمْ- قُصُودٌ، ثُمَّ وُرُودٌ، ثُمَّ شُهُودٌ، ثُمَّ وُجُودٌ، ثُمَّ خُمُودٌ، فَيَقْصِدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرِدُ، ثُمَّ يَشْهَدُ، ثُمَّ يَجِدُ، ثُمَّ تَخْمَدُ نَفْسُهُ، وَتَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَالْوَجْدُ مَا يَرِدُ عَلَى النَّاظِرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُكْسِبُهُ فَرَحًا أَوْ حُزْنًا، وَهِيَ فَرْحَةٌ يَجِدُهَا الْمَغْلُوبُ عَلَيْهِ بِصِفَاتٍ شَرِيفَةٍ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَالتَّوَاجُدُ اسْتِجْلَابُ الْوَجْدِ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، لِاتِّسَاعِ فُرْجَةِ الْوَجْدِ بِالْخُرُوجِ إِلَى فَضَاءِ الْوِجْدَانِ، فَلَا وَجْدَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْوِجْدَانِ، كَمَا لَا خَبَرَ مَعَ الْعِيَانِ، وَالْوَجْدُ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ، وَالْوُجُودُ ثَابِتٌ ثُبُوتَ الْجِبَالِ، وَقَدْ قِيلَ:
قَدْ كَانَ يُطْرِبُنِي وَجْـدِي فَأَقْعَدَنِي ** عَنْ رُؤْيَةِ الْوَجْدِ مَنْ بِالْوَجْدِ مَوْجُودُ

وَالْوَجْدُ يُطْرِبُ مَنْ فِي الْوَجْدِ رَاحَتُهُ ** وَالْوَجْدُ عِنْدَ حُضُورِ الْحَقِّ مَقْصُـودُ

فَالتَّوَاجُدُ: اسْتِدْعَاءُ الْوَجْدِ بِنَوْعِ اخْتِيَارٍ وَتَكَلُّفٍ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ كَمَالُ الْوَجْدِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لَكَانَ وَجْدًا، وَبَابُ التَّفَاعُلِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى إِظْهَارِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا قِيلَ: إِذًا تَخَازَرْتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّوَاجُدِ: هَلْ يَسلَمُ لِصَاحِبِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَسْلَمُ لِصَاحِبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَإِظْهَارِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَسْلَمُ لِلصَّادِقِ الَّذِي يَرْصُدُ لِوِجْدَانِ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صَاحِبَ التَّوَاجُدِ إِنْ تَكَلَّفَهُ لِحَظٍّ وَشَهْوَةِ نَفْسٍ: لَمْ يَسْلَمْ لَهُ، وَإِنْ تَكَلَّفَهُ لِاسْتِجْلَابِ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ مَعَ اللَّهِ: سَلِمَ لَهُ، وَهَذَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْمُتَوَاجِدِ، وَشَوَاهِدِ صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ.

.فَصْلٌ: [تَكَلَّمَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالِاتِّحَادِيَّةُ فِي الْوُجُودِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الصَّوَابِ]

وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْوُجُودِ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالِاتِّحَادِيَّةُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الصَّوَابِ: هَلْ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْقَدِيمِ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْحَادِثِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ خَطَأٌ، وَأَصْحَابُهَا كَخَابِطِ عَشْوَاءَ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْوُجُودَ وَالْمَاهِيَّةَ إِنْ أُخِذَا ذِهْنِيَّيْنِ فَالْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُخِذَا خَارِجِيَّيْنِ: اتَّحَدَا أَيْضًا، فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْخَارِجِيَّةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَالثَّوْبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَدَنِ، هَذَا خَيَالٌ مَحْضٌ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا، فَلَيْسَ فِي الذِّهْنِ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودُ مُتَغَايِرَيْنِ، بَلْ إِنْ أُخِذَ أَحَدُهُمَا ذِهْنِيًا وَالْآخَرُ خَارِجِيًّا، فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بَحْثَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، لَا مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ فِي أَنْ يَجِدُوا مَطْلُوبَهُمْ، وَيَظْفَرُوا بِهِ، وَأُولَئِكَ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهِ: هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَهَلْ هُوَ وُجُودُ مُطْلَقٌ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَصْفٌ وَلَا اسْمٌ؟ أَمْ وُجُودٌ خَاصٌّ تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَاتُ وَالْأَسْمَاءُ؟ فَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ.
وَأَعْظَمُ الْخَلْقِ كُفْرًا وَضَلَالًا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ نَفْسُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْ عَيْنَ وُجُودِهِ فَاضَ عَلَيْهَا فَاكْتَسَتْ عَيْنَ وُجُودِهِ، فَاتَّخَذَ حِجَابًا مِنْ أَعْيَانِهَا، وَاكْتَسَتْ جِلْبَابًا مِنْ وُجُودِهِ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمْ مَا لَبَّسُوهُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَإِيجَادِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ هُوَ الَّذِي فَاضَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي اكْتَسَتْهُ، وَأَمَّا وُجُودُهُ: فَمُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَاهِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ عَنْهُ، فَوُجُودُ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَوُجُودَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، وَبَانَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَوُجُودِهِ عَنْ خَلْقِهِ.

.فَصْلٌ: [حَدُّ الْوُجُودِ]:

قَوْلُهُ: الْوُجُودُ حَدُّهُ: اسْمٌ لِلظَّفَرِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ وَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وُجُودًا، وَوَجَدَ ضَالَّتَهُ وِجْدَانًا، وَفِي الصِّحَاحِ: أَوْجَدَهُ اللَّهُ مَطْلُوبَهُ أَيْ أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَوْجَدَهُ أَيْ أَغْنَاهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا جِدَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَيُقَالُ: وَجَدَ فُلَانٌ وُجْدًا وَوَجْدًا- بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا- إِذَا صَارَ ذَا جِدَةٍ وَثَرْوَةٍ، وَوُجِدَ الشَّيْءُ فَهُوَ مَوْجُودٌ وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: وَجَدَ اللَّهُ الشَّيْءَ كَذَا وَكَذَا، عَلَى غَيْرِ مَعْنًى أَوْجَدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَدَهُ عَلَى عِلْمِهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ إِيجَادِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْوَاجِدُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ: فَهُوَ بِمَعْنَى ذُو الْوُجْدِ وَالْغِنَى، وَهُوَ ضِدُّ الْفَاقِدِ، وَهُوَ كَالْمُوْسِعِ ذِي السَّعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أَيْ ذَوُو سَعَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمُلْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَدَخَلَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْوَاجِدُ دُونَ الْمُوجِدِ فَإِنَّ الْمُوجِدَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مُعْطِي الْوُجُودِ، كَالْمُحْيِي مُعْطِي الْحَيَاةِ وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَجِئْ إِطْلَاقُهُ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ: أَوْجَدَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، وَصَوَّرَهُ وَأَعْطَاهُ خَلْقَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لَمْ يَجِئِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْفِعْلَ أَوْسَعُ مِنَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَمْ يَتَسَمَّ مِنْهَا بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِ، كَأَرَادَ، وَشَاءَ، وَأَحْدَثَ، وَلَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ وَالشَّائِي وَالْمُحَدِثِ، كَمَا لَمْ يُسَمِّ نَفْسَهُ بِالصَّانِعِ وَالْفَاعِلِ وَالْمُتْقِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ، فَبَابُ الْأَفْعَالِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ.
وَقَدْ أَخْطَأَ- أَقْبَحَ خَطَأٍ- مَنِ اشْتَقَّ لَهُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ اسْمًا، وَبَلَغَ بِأَسْمَائِهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ، فَسَمَّاهُ الْمَاكِرُ، وَالْمُخَادِعُ، وَالْفَاتِنُ، وَالْكَائِدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَابُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالِاسْمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ، وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ.
فَأَمَّا الْوَاجِدُ فَلَمْ تَجِئْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ تَعْدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ ذُو الْوَجْدِ وَالْغِنَى، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى بِهِ مِنَ الْمَوْجُودِ وَمِنَ الْمُوجِدِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا كَانَ مُسَمَّاهُ مُنْقَسِمًا لَمْ يَدْخُلِ اسْمُهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَالشَّيْءِ وَالْمَعْلُومِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ، وَلَا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ، لِانْقِسَامِ مُسَمَّى الْمُرِيدِ وَالْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا الْمُوجِدُ فَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَكْمَلِ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ فَالْمُوجِدُ كَالْمُحْدِثِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ.
وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ فِقْهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَتَأَمَّلْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.